["كتب" هي سلسلة على صفحات "جدلية" نستضيف فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بمقطع من الكتاب بعد المقابلة]
["اطفال الندى" للكاتب محمد الأسعد عن دار الفيل، القدس، 2013.]
جدلية: رواية “أطفال الندى” هي رواية عن النكبة، عن ذلك اليوم الذي تهجرت به عائلتك من قرية أم الزينات الواقعة على سفح جبل الكرمل، هل هي إذن سيرة ذاتية فردية؟ وما هي مدلولاتها في السيرة الفلسطينية؟
محمد الأسعد: لا أنظرُ إلى هذه الرواية على أنها "سيرة ذاتية فردية". صحيحٌ أنها تروي ما حدثَ لي ولعائلتي في قريةٍ فلسطينية محدّدة هي قرية أم الزينات على سفحِ جبلِ الكرمل، إلا أنها بهذا التوصيف بالذات تتجاوز إطارَ السيرة الذاتية الفردية إلى إطارٍ أوسع؛ هي ذاكرة قرية من مئات القرى الفلسطينية التي تعرض أهلها للقتل والتشريد، وتم تدميرها ومصادرة أراضيها، وسكن فوق أنقاض بعضها أو على أطراف بعضها الآخر مستعمرون غرباء.
حين تتخطى هوية الفرد المنعزلة، هوية الجسيم المغلقة، ذاتها إلى هوية جماعية أعلى، هوية الموجة المنتشرة بلا حدود، تحتاج إلى توصيف جديد؛ إنها أنا وآخر في وقت واحد، وهي في هذا المكان وذاك في آن واحد معاً، وهي أيضاً في هذا الزمن وذاك من دون حدود. في هذا العمق يتحول ما يسرده فردٌ إلى سردٍ جماعي يشعر معه كل إنسان إنه يتحدث عنه وإليه، وأقصد بكلمة كل إنسان، من مات ومن يحيا ومن سيأتي في المستقبل. وهنا أجد مدلولات هذه السيرة في السيرة الفلسطينية، أعني إنها تضيف بعداً غير مألوف في فن كتابة السيرة الفلسطينية، تفتح الأفق لنظرة إلى وجودنا الفردي بوصفه جزءً من كلية أكبر نتحقق فيها ونصير، نحن جزء من الطبيعة ومن البشر يتحقق مصيرنا بقدر ما نعي ونفهم أن تفاعلنا مع محيطنا الشامل هو الذي يمنحنا وجودنا الحق.
جدلية: يلف الرواية الصمت، صمت الفلسطيني الفلاح الذي لم تفسح له رواية التأريخ الرسمي مكاناً. هل يمكن القول إن روايتك جاءت لتكسر حاجز الصمت هذا، وما هي الصعوبات التي واجهتك في ذلك؟
الأسعد: هنالك إشاراتٌ إلى الصمتِ في الرواية، بل وتجسيدٌ حسّي لهذا الصمت، في صمتِ الأب والأم، في سكونِ الجبل والشجر، في الأجوبة التي لاتصل، في ارتداد الطفل إلى مسرح خاص يقيمه بينه وبين نفسه، وأخيراً في غياب كلِّ ما يُذكّر بنا في التاريخ الرسمي والبيان السياسي. ولكن صمتنا نحن ضحايا المأساة الفلسطينية المستمرة منذ أكثر من قرن من الزمن، يختلف عن هذا الصمت الرسمي الذي نصطدم به حين نتصفح الكتب والتقارير والصحف ولا نجد لنا ولأهلنا ذكراً. صمتنا مأهولٌ بالأصوات؛ أصوات من غابوا وتشردوا، أصوات الأحباء والأصدقاء والأقارب، أصوات الجماعة التي تسكن الوجدان والذاكرة وتقطعت بها السبل فلم تعد ترد أخبار بعضها إلى بعض. هذا صمت قاتل مثلما هو صمتُ التاريخ الرسمي، ولكن مسؤولية مواجهة الإثنين تقع علينا نحن، رواةً وشعراء وكتاباً ومنشدين، أي نحن الذين نمتلك وسيطاً للقول وسرد أخبار شعبنا على أسماع بعضه البعض، وعلى أسماع العالم من حولنا، العالم الذي دهشتُ حين اكتشفتُ أنه لا يصله عنا إلا القليل جداً. لقد فشل معظم ما قيل وكُتب عنا في مخاطبة بصيرة وبصر العالم من حولنا لأن من تنطعوا لتمثيلنا، أو كان يجب أن يمثلونا لم يمثّلوا إلاّ أنفسهم، وتركوا الفلاح الفلسطيني في خلفية مسارحهم؛ صورة ضبابية وغائمة. كنا ومازلنا بحاجة إلى أن نروي قصتنا ليعرفنا العالم، بل ولنعرف أنفسنا.
لكسر حواجز هذا الصمت، ليمْثل الفلسطيني بشراً سوياً، بكل ما يعنيه ذلك من اجتذاب تعاطف العالم، كانت المواجهة الأولى مع الصور التمثيلية الشائعة عنا ولنا، أي مع ما بثه الخطابُ الفلسطيني والعربي أولا. هذه صورٌ طمستْ ملامحنا الإنسانية إلا في ما ندر، وحولتنا إلى مجرد أرقام وحشد بلا ملامح، تجاهلت أسماءنا ورموز تاريخنا بل وجغرافية بلادنا، أي أفرغت الذاكرة من عناصر حيويتها وقدرتها على الفعل في حاضرنا. حوّلنا هذا النوع من الصمت إلى كلماتٍ ودوالٍ بلا مدلول. كنا إذاً بحاجة إلى العودة مجدداً إلى تلمس وجوهنا وملامحنا وتضاريس أرضنا، إلى خلق لغة تتناول الملموس ولا تغرق في المجردات. وأعتقد أن ملحوظة "كمال بلاطه" عن السمات التجريدية في الفن التشكيلي الفلسطيني التي تسود أو تنحسر نسبة إلى بعد أو قرب الفنان عن أرض الوطن، ملحوظة صائبة. تنطق الأشكال والكلمات حين تقترب من الأرض، وتصمت أو تصاب بالخرس حين تبتعد عنها.
جدلية: قد يقع الأدب الذي يعتمد على الروايات الشعبية في فخ التسجيل الصرف، حيث يفقد في أحيان كثيرة جماليته التي تميزّه عن العلوم الإنسانية التي تتناول هذه الروايات من زوايا بحثية. كيف تناولت "أطفال الندى" هذه الروايات؟
الأسعد: هذا صحيح في حالة واحدة؛ حين يبتعد الأدبُ عن كونه فناً، أي في حالة خلوه من خصوصية السرد الأدبي. أعني في حالة خلوه من عدة بديهيات أولها، أن المهم في الأعمال الأدبية ليس ما يُقال ويُكتب فقط، بل كيفية القول والكتابة، وثانيها، أن غاية هذه الأعمال ليس الإخبار ونقل الوقائع بقدر ما هي استثارة شعور قوي بالحياة فينا، وثالثها، أن هذه الأعمال ليست تسجيلا للوقائع أو تحليلا لها، بل هي استشراف لما هو أعمق من ظاهرها، واتصال بواقع عميق شامل في الطبيعة والناس. ولهذا نجد صاحب العمل الأدبي يلتقط ويختار وينظم من سلاسل الأحداث ما يتوافق مع رؤية وخبرة خاصة به كإنسان مبدع، وليس مجرد جهاز تسجيل لا علاقة لخبراته ونوازعه بما ينقل ويسجل.
هذا مجرد تلخيص لخصائص السرد التي تتصل بتقانات أخرى أيضاً، مثل العناية بالصورة، ورنين الكلمات، وبنية النص في تعاملها مع وحدات الزمن.. إلخ. وكلها تقانات ذات غاية تتجاوز غاية العلوم الإنسانية المعنية ببحث وتحليل رواية مثل الرواية الشعبية، أو تصنيفها واستنتاج رؤى اجتماعية أوسياسية على أساس هذا التصنيف.
حين جئتُ إلى الرواية الشعبية، أو ما يرويه الشعب، وجعلتها أساس رواية أطفال الندى، جئتها بوصفها حاملا للذاكرة الحية. الناس يحملون وينقلون هذه الذاكرة من جيل إلى جيل مثلما ينقل الشجرُ والترابُ والصخرُ جوهرَه من فصلٍ إلى آخر. أي أنني افترضتُ، في مواجهة التجاهل والقمع ذي المنزع الطبقي للفلاحين من أهلنا، أن في الرواية الشعبية قوة على مقاومة هذا التجاهل والقمع. ولأن الرواية الشعبية رغم بساطتها تحتوي على أغوار خصبة وغنية الدلالات، وأكاد أقول كونية المغزى، وجدت فيها مناجم يمكن أن يجد فيها الصانع الماهر عروقا ذهبية تستحق المتابعة. إضافة إلى أنها، في الحالة الفلسطينية، ضرورية ضرورة الحياة والموت. نحن كفلسطينيين نتذكر فنحيا، نتذكر فيجتمع شملنا. نحن ببساطة بحاجة ماسة إلى ذاكرتنا الشعبية لأنها مهاد حياة المجتمعات، وهي منبع ودلالة رسوخها في هذا الوجود. كانت الرواية الشعبية وسيطا ثقافيا لا يمتعنا صغاراً فقط، بل يأتي إلينا بأصوات الماضي ويمازج بينها وبين أصوات الحاضر. تبدو الرواية الشعبية تسجيلا لوقائع، هذا هو الظاهر، ولكنها في الحقيقة ابتكار لعالم نعيشه فعلا على مستوى الواقع/ الخيال ، إنها فعلٌ إنساني، ومن هنا هي فنٌ يحمل ما يحمله الفنُ من وعودٍ بتجديد الحياة، بالتأكيد على أن تجديد الحياة وبث الحيوية فينا وفي ما حولنا، هو تجديد لشعبنا، ومده بالقدرة على مقاومة شتى صنوف الإبادة والتشريد والنسيان.
جدلية: لماذا "أطفال الندى"، وما هي الدلالة التي يحملها "الندى" في الرواية؟
الأسعد: ينتشر الندى في كل فصول الرواية تقريباً، ويغمر الكائناتِ والموجودات الطبيعية، ويرافق اللاجئَ من جبل الكرمل في كل منعطفات حياته، ويمْثلُ في عدد من المشاهد القريبة من القلب، محسوسا وملموساً. لم يكن رمزاً او شيئا يشبه الرمز. هو دالٌ مادي يشير إلى الأشياء قبل كل شيء، إلى أشيائنا، الزيتون والسرّيس وشجر البطم، وصخور جبلنا، والصباحات الغائمة ، وسرى الأخ والأب فجراً. إذاً هو حين يذكر تحضر معه أشياؤنا، أي فلسطيننا بكل بساطة.
جاء الندى إلى الرواية وغمرها، ولم يتوقف حتى هذه اللحظة إحساسي به، حين كانت أمي تحدثني عن تلك الأيام، عن تلك الليلة التي حملتني فيها أختي الكبرى وانطلقنا هاربين من رصاص الصهاينة بين أحراش الزيتون. قالت الأم حرفياً " حين كنتم تعطشون كنا ندني من شفاهكم أوراق الشجر ونروي عطشكم بقطرات الندى". لم تكن أمي راوية ولا شاعرة، ولكن رسمها لهذا المشهد، أنا الطفل المعني أساساً بهذا الحدث وبطله، سحرني تماماً. ومن هنا جاء العنوان، أطفال الندى، وليتخذ الندى شكل مرآة تعكس خلودنا وخلود جبلنا واستعصاءنا على الفناء.
يمكن أن يقال الكثير عن هذا العنوان، فهو يرمز، أي أنه ينقل المعنى إلى المستوى الثاني المسمى في البلاغة معنى المعنى، وهو يثير الأحاسيس والذاكرة، أي أنه يعيد الإنسان إلى كينونته الأرضية ويمنع تحويله إلى كائن مجرد، وهو يعيد رواية الخلق الأول حين كان الماء هو البدء. كل هذه أصداءٌ تتردد في ممرات وردهات الروح الإنسانية، ليس لمجرد ذكر كلمة الندى، بل لأن الكاتب تعامل مع هذه الكلمة في سياقات مختلفة ومنحها في كل مرة وجوداً متجدداً دالا، أي كيفية أبعدتها عن معناها المستقر في المعاجم.
جدلية: متى وأين صدرت الرواية لأول مرة وما أهمية إعادة نشرها في فلسطين المحتلة عام 1948؟ ما الذي يعنيه ذلك على صعيد المرحلة الفلسطينية الراهنة؟
الأسعد: صدرت الرواية لأول مرة في لندن ضمن منشورات دار رياض الريس في العام 1990، بتشديد من القاص السوري زكريا تامر والشاعر نوري الجراح على ضرورة نشرها. أهمية نشرها الآن في فلسطين المحتلة، من وجهة نظري، وفي هذا الوقت بالذات تأتي في سياقين، الأول مقاومة محو الذاكرة الفلسطينية الذي أصبح نهجاً تعتمده "ثقافة" شائعة اختلقها سماسرة أوسلو وجوقة المنتفعين من هذه الصفقة، حوّلتْ فلسطين إلى معسكر سجناء حرب سعداء بطبخ وجبات الحساء والرقص تحت أنظار المحتلين، والثاني تحرير المخيلة الفلسطينية من مستعمراتٍ على شكل صور ومفاهيم مضللة عن النفس والعالم والمستعمر الصهيوني يقيمها "مثقفو" هذه الجوقة.
تحضرني دائماً هذه المفارقة؛ حين كنا سجناء مخيمات اللجوء تحت أنظار أبراج الحراسة العربية في الخمسينات، كان أدبنا الفلسطيني يضع الإنسان الفلسطيني في مقدمة المشهد، وكان رواتنا وشعراؤنا والحداة يتنقلون بين شتات شعبنا ويحفظون له ذاكرته الجمعية، ويرسمون جغرافية ثقافية ذات طابع إنساني لهذا الشعب المشرد، وحين أخرجتنا المنظمات الفلسطينية من المخيمات، وتشكلت حركة المقاومة، بدأت صورة الفلسطيني اللاجئ في الأدب بالإضمحلال، وبرزت إلى جوار هذا الاضمحلال صور تمثيلية لفلسطيني فردٍ مرسومٍ بخطوط مجردة لا تشبه وجه أحد من أهلنا، أصبح اسمه الان رسمياً "الفلسطيني الجديد"، أي ذلك الذي يضع نفسه في خدمة المستعمر الصهيوني. ومع هذه الصورة انحسرت الجغرافية الفلسطينية وتقلصت.
نحن نشهد الآن، بعد أكثر من أربعين عاماً من التضحيات، اختفاءنا من الخطاب السياسي والثقافي الفلسطيني بعد أن استبدلتْ عصابة من سماسرة اوسلو كانتوناتٍ بائسة، يتحكم بها السجان وسجينه المحظوظ، الكابو، بأرض فلسطين. ألم يخرج "الفلسطيني الجديد" هذا من روايات وقصائد من زعموا تمثيلنا قبل أن يطل برأسه من قبعة الجنرال الأمريكي "دايتون"؟
في هكذا مرحلة أشعرُ، كما شعرَ الأصدقاء في فلسطين، بأهمية أن أعيد نشر رواية أطفال الندى، أهمية أن يعود الفلسطيني إلى ذاته، أن يسترد ما يحاول السماسرة سلبه منه، أن يحضر هو وأهله وقراه وأسماؤه ويقف بسيطاً كما هي الحقيقة في وجه هذه البذاءة التي تتخذ أسماء مثل المفاوضات وعملية السلام وتبادل الأراضي وما إلى ما هناك من هراء.
جدلية:ما هو موقع هذه الرواية في مسيرتك الأدبية؟
الأسعد: تقف هذه الرواية في مسيرتي موقف العلامة البارزة التي أيقظتني على ممكنات للسرد الروائي مفتوحة، سواء بتقنيتها كرواية متعددة الطبقات المكانية والزمانية، أو بشعريتها، وأعني بهذه الأخيرة، الإصغاء إلى الأشياء، وليس تهويمات الاستعارات، أو باعتماد العفوية الناجمة عن دربة طويلة الأمد. كل هذا ابتعد بي عن اعتماد هذا القالب الروائي أو ذاك، وألقى بي في أرض تجريبية، في أرض لم ترسم خرائطها بعد. لا أعني بالرواية التجريبية تلك غير المكتملة أو الخطاطة الأولية كما هو دارج حين تذكر كلمة التجريب، بل أعني رواية ذات خاصية مميزة؛ رواية تسلم نفسها، لغة وثقافة ومدارات، لحقل ممكنات. المنطلق وراء هذا فيزيائي/فلسفي يقوم على فرضية أن الالتباس والغموض يحكم ظواهر الوجود، لأن مظاهر الحياة منبثقة على غير مخطط حتمي، يحكمها قانون الاحتمالات. من هنا تتلمس روايتي ما سينبثق وينتج عن عدة احتمالات، سواء كان حدثا أو صورة أو مساراً او شخصية. لا يوجد يقين مسبق، كما هو حال من يصل إلى قالب ويفني عمره في اللجوء إليه كلما أراد كتابة رواية، لا يوجد تخطيط مسبق كما هو حال المحترف بل تخطيط ينشأ كلما تقدم النص. يشبه هذا فعل الهاوي، والفنان هاو عظيم للحياة.
لو استعرضتُ رواياتي الست التي كتبتها حتى الآن، لن أجدها سوى ست نصوص سردية مختلفة، كأنها استكشافات في أراض مجهولة لم تطأها قدم إنسان من قبل. ولكل استكشافٍ مساره وانعطافاته، وله آلة تصوير خاصة به. حتى لغة هذه الروايات متنوعة لا أجد ما يحكمها سوى تقانة أسميها تقانة تراسل الحواس، تلك التقانة القائمة على تبادل بين وظائف الحواس السمعية والبصرية واللمسية وبقية الحواس.
وحين أعود إلى رواية أطفال الندى أجدها احتوت على غالبية هذه الخصائص التي وصفتها. ربما كانت بذرة نمت منها وانتشرت حولها أشجار مختلفة لا يسري فيها بالضرورة النسغ الصاعد ذاته، أي الذاكرة الفلسطينية، بل قد تسري أنساغ أخرى. صحيح أنني نقلتُ "أطفال الندى" لاحقاً إلى عالم اللجوء في رواية "نص اللاجئ"، ثم إلى العالم الأوسع في رواية "أم الزينات تحت ظلال الخروب"، ولكن هذه الثلاثية تظل فريدة في مساري الروائي، لأن الروايات التالية، "حدائق العاشق" و"شجرة المسرات" و"أصوات الصمت"، استكشافات في أراض أخرى، يرتادها اللاجئ ذاته ولكن بتحولات تجعل منه رحالة عبر العصور يلم بتجارب الحضارات الإنسانية ويحتضنها، بل ويتبناها ويصبح موجة تتداخل مع أمواجها.
[مقطع من رواية "اطفال الندى" للكاتب محمد الأسعد عن دار الفيل القدس، 2013.]
"حين كان الأطفالُ يعطشون كنّا نجمع الندى بأكفّنا من أوراقِ الشجر ونسقيهم". وحين اختلفت الطرقُ وتشعّبتْ في الظلمةِ بين الصخور والشجرِ الكثيف، قال والدي: "اتبعوني فأنا أعرف الطريق". لقد ضلّ الكثيرون طريقهم واصطدموا بكمائن يهودية متربصة عند آبار المياه، ومنعطفات الطرق المعروفة. أما والدي فقد اختارَ طريقاً وعراً بين الشجر متجنباً كل الطرق المعروفة. وهكذا انفصلنا عن بقية أهل أمّ الزينات في الطريق إلى الدالية شمالا. ويبدو أن هذا الإنفصال سيسود الرواية كلها، فهنا تتوقف أمّي لتعلن عن خلافات بينها وبين نسوة من العائلة، وينصح والدي الذي تجوّل كثيراً بين القرى باعتزال الجميع واختيارِ طريق لا ماءَ فيه سوى الندى.
وتقول أمّي:
"كنّا نشاهد جثثاً على جوانب الآبار، وفي الطرق"
وأسمعُ في صوتها رنّةَ العزلة كأنها جاءت بعد أن حدث كلّ شيء هي التي أيقظها في منتصف الليل صوتُ البارود فتطلّعتْ إلى أمّ الزينات فإذا هي شعلة من النار. وأيقظت الحاج الذي لم يكن قد حج بعد، وأخذت طريقها إلى البلد ذاهبة إلى بيتِ أهلها.. بيت أبو طالب لتعرف ماذا يحدث، كأن هذا البيت نداءٌ غريزي استيقظ في تلك اللحظة، فهرعتْ تبحث عن جواب فيه. وكانت البلدة خالية تماماً. وفوجئت بأخيها يطلُّ من سطح الدار ويصرخ بها:
"ماذا تفعلين هنا؟ لقد غادر الجميع.. ارجعي.. ارجعي"
كان الخالُ وحيداً ببندقيته. ولا أدري ماذا كان يفعل هناك بعد أن أُخليت البلدة سوى أن لوثة أصابته. تقول أمّي:
"كان قد وضع النساء والأطفال في البيت، وأعلن أنه سيطلق عليهم الرصاص إذا اقتحم اليهود البيت".
كان صلباً وعنيداً كما تروي عنه، فقد مزّقَ رصاصُ الانكليز كتفيه. ومع ذلك تحامل على نفسه وحمل رفيقاً جريحاً استنجدَ به، ونجا به من التطويق في أمّ الدرج.. تلك المعركة التي تسمّيها الموسوعاتُ معركة أمّ الزينات، وتسمّيها أمّي واقعة أمّ الدرج، وتحمّل مسؤولية التقصير فيها ليوسف أبو درّة. ولا أجد حين أقرأ شيئا من كلّ هذا. فلا هذا الخال موجود، ولا حسن الدبّور، ولا عشرات الأسماء التي كانت هناك. ولا يبدو أن بشراً محدّدين قد عانوا من التطويق في تلك الليلة، ولا سُمعت حشرجاتهم ولا وُجدت آثار أقدامهم ولا صهيل خيولهم. إن التواريخ لا توقظ البشر بل تستخدمهم حين تغيّبهم، فيتبدّدون مثل غيومٍ عابرة، وسترجع أمّي بالطبع من البلدة الخالية، وتنحدر إلى الوادي وتأخذنا والنعاسُ يغالبنا في الظلام.. يتقدمنا الوالد تاركين الخال على سطح داره وصوت صراخه يتردّد في أذنيها.
لم نذهبْ فجأة هكذا، ونتبدّد في الوعرِ كما يقال في الرواية بل اتخذنا طريقنا إلى الدالية شمالا كما اتخذ أهالي القرى المحترقة طريقهم في هذا الاتجاه أو ذاك.. يتنادون عن بعدٍ ليعّرفوا بأنفسهم وليتجنبوا المفاجآت، ورغم أنهم يعرفون الطرقَ جيداً إلا أن هذه المعرفة لم تسعفهم فقد التهمتْ الطرقَ فجأة كائناتٌ خرافية وغيلان لبدتْ وراء الصيافير والمنعطفات وما عاد هناك طريقٌ مألوف أو ثابت تحت القدمين.
يحشرج الضبعُ بصوتٍ كالهدير، ولكنه حين يواجهكَ ويلمس منكَ رهبةً وخوفاً، يصرخ بوجهكَ فتنضبع، وتضيع من قدميكَ الطرقُ، ويحيطكَ الضبابُ، فلا تعرف إلى أين تتجه.. حتى أنكَ لتفقد قدميكَ ويديكَ. أما رأسكَ فيمتلئ بالهواءِ. وتتحرك مسلوبَ الإرادة.. تشقّ طريقكَ وعيناكَ على الضبعِ دون أن تراه، ولكنكَ تحسّ به أمامكَ يسير ويتوقف لينظر إليكَ بعينيهِ الصفراوين ثم يسير قفزاً وأنتَ وراءه، ويشقّ لك طريقكَ. لقد ضُبعتَ إذن بهدير المترليوز وأصوات "كاديما" والضجيج الذي يبعثه انهيار السلاسل الحجرية في الظلام.
والدي وحده امتلكَ رأسه في تلك الليلة، ليقودنا إلى الدالية بعيداً عن همهمات الضباع وهي تلبد في العتمة لتهبّ بوجوه القرويين التائهين وتقودهم إلى كهوفها.. ربما لأنه يعرف القصة جيّداً، أو ربما لأنه كما يَروي صادف الضبعَ مرّة، فضبعه، ولذا لم يعد بإمكان هذا الكائن التغلب عليه.
هي مرّة في العمر، وحين يكون حظّكَ جيّداً يكون مدخل المغارة واطئاً، فينسلّ الضبعُ داخلاً، ويصطدمُ رأسكَ بالمدخل، ويسيلُ دمكَ، فتستيقظ، وترى نفسكَ بعد أن أتيتَ بالعجب العجاب واقفاً في مكان لا تدري كيف جئتَ إليه، وأي قوّة دفعتكَ لتسلّقهِ، فتتناول بندقيتكَ وتصوّبها إلى الضبع المذهول من انقلاب الوضع، وتطلق الرصاص.. وتطلق، فيتكوم الضبعُ على نفسه مزمجراً، مكشّراً عن أنيابهِ بينما تتقلص قوائمه الخلفية القصيرة وتمتدّ قوائمه الأمامية الطويلة حافراً التراب بمخالبه. لقد صحوتَ إذن. ولكن من يدري كم ستمتدّ هذه الرحلة وراء الضبع؟ أي البلاد يمكن أن يقطعها المضبوع والناس تنظر إليه راكضاً وراء الضبع وهو يَظْلع أمامه؟
إني أتخيّل المشهد كما لو كان قد بدأ منذ تلك الليلة واستمرتْ فصوله بينما يزدادُ عددُ المراقبين لرحلة المضبوع سنة بعد سنة، ولا أحد يتقدم فيضربه بحجر ولا أحد يوقفه على الأقل أو يقضي على الضبع الذي يتحوّل إلى صديق أو رفيق.
إن لنا ضباعنا قبل أن نولد، ولنا هذا المشهد الذي سنكون أبطاله فيما بعد، ففي الدالية نجد الكثيرين قد وصلوا قبلنا، وبدأوا يتفقدون الذين ضاعوا في الطريق.
ولا أحد يعرف هل أكلتهم الضباع أم سلبتهم عقولهم وما زالوا يجرون هنا أو هناك لا يعرفون ما يفعلون، أم ظلّوا في البلد كما ظلّ الخال العنيد. لم يحن الوقتُ للبكاء بعد.. ذلك البكاء الذي سينطبع في الروح إلى الأبد، ولم يحن الوقتُ للتفجّع، فالصغارُ بحاجة إلى ما يأكلون في هذا النهار الغريب الذي يأتي والفلاحون خارج حبّات الجوز لأول مرّة في حياتهم، خارج ملحهم ومائهم، ونهاراتهم المألوفة، وخارج أنفسهم أيضاً. وهنا يحدث ذلك الموقف الغريب الذي جعل من رحلة ليلة واحدة ألف عام مما يعدّون، فقد قرّرت الأمّ العودة إلى البيت على الأقل لتوفير الطعام لنا، وصحبها أخي الكبير ووالدي في طريق العودة ليلا. الطرق الوعرة نفسها، ولكن بلا أطفال يصرخون بين ساعة وأخرى طالبين الماء، فتميل إليهم الأكفُّ بقطرات الندى.
كان الجبلُ ملغوماً بهمهمة الضباع، والظلال تتخذ أشكالا تتغير بين لحظة وأخرى، ولا صوتَ يُسمع غير حفيف الشجر وهم يمرّون.
وهناك في وحشة الوادي لا يبدو أن أحداً قد اقترب من البيت، فالظلام يحيط به ويخفيه. وحده الحمامُ كان مستيقظاً حين دخلوا، فبدرتْ منه حركة ما زالتْ أمّي تتذكرها. رفرفَ الحمامُ على وجوه وأكتافِ القادمين، وانتشرَ في العتمة رفيفُ الأجنحة وصوتُ الهديل كأنما طلع النهار وبدأتْ الطبيعة يومها في منتصف الليل.
وسيكون هذا الانقلابُ في دورة الليل والنهارِ رفيقنا منذ ذلك اليوم، ولن تعود للزمن الشمسيّ سيطرة. وسواء أكان الوقتُ ليلا أم نهاراً فللحمامِ رفرفة، وللشجر اخضرارٌ، ولليقظة أن تستمرّ، ولأمّي أن تعيد القصة حيثما شاءتْ، وأمام من يصدّق أو لا يصدّق بأن حمام البيت يعرف أصحابه ولا يعترف بالوقت.
إنهم سادة الوقتِ الذي غاب لأنهم غابوا، وكذلك كان أمرُ الندى والأيام والصيافير، فهو ندى فلسطين ورياح فلسطين وصيافيرها وبلاطات الشقّاق.
وأفكّرُ بهذا الحمام الذي رفرفَ في تلك الليلة مغادراً عادته القديمة لأول مرة منتشياً بالقادمين الذين تركوه للسكون فجأة، وأفكّر بأخي وهو يردّ عن كتفيه الحمامَ، باحثاً عن كيس من الطحين أو جرة زيتون، وأمّي وهي تحمل أواني الطبخِ والوالد وهو يتخبّط في العتمة باحثاً عن شيء يحمله.
وأفكّرُ ببيتنا وهو يهوي في القاعِ وأنا أصعد إلى البلدة، بهذه الحركة المهموسة التي ضجّ بها يحميه بعده عن الشارعِ المعبّد، وانعزاله عن البلدة المرتفعة، وأراقب الحركة اللاهثة والسريعة، فلا وقتَ يمكن تضييعه.. والأرضُ تنبض تحت حشرجة الضباع والشجرُ يصيبه السكون حيث تنتشر الغيلان وحيفا تحوّلتْ إلى فحمة سوداء في السفح، والبحرُ قاتم.
هذه هي الليلة الثانية من الليالي السبع التي بدأنا نعدّها.. الليلة التي التهمتْ فيها الغيلان الطرقَ كلّها، وتقطّعتْ بنا السبل.
وسينحدر الخالُ الذي لا أدري كيف تخلّى عن عناده وصحب عائلته إلى الدالية حاملا بندقيته، إلى مكمنِ الضبع نفسه، وسيتحوّل إلى كمين متحرك يتنقل من صخرة إلى صخرة ومن شجرة إلى شجرة مطمئناً إلى أن بضع رصاصات في البندقية وحزامين من الذخيرة يتقاطعان على صدره تكفي لإيقافِ قطيع من اليهود يتغلغل على هامش الوجود، ويتعلّق بمخالبه بالسناسل الحجرية ويطلّ على نيران القرويين ولا يجرؤ على الاقتراب. إنهم منتشرون الآن في التفاصيل كلّها. ومع ذلك فهو لا يراهم مباشرة، ويظن خالي أن البلدة التي خلتْ منهم بعد ساعات من اجتياحها، وأن الآبار المهجورة إلا من الجثث، وأن أحراج الزيتون التي عاد السكونُ وأخفاها، هي خير دليل على أنهم لن يعودوا مرة أخرى. لقد ابتلعهم الليل، ولم ينتشروا كما في الحكايات مثل الجراد، ولا جاء الوقتُ الذي تحدث فيه الواقعة الكبرى، حين يصل الدمُ إلى الركب، وتخوض الخيلُ في الدماء، ويقتصّ فيه المسلمون من اليهود، فلا مهرب لهم، حين يحاولون الاختباء وراء الحجارة والشجر، فينادي الحجر.."يا مسلم هذا يهودي تعال واقتله"، وتنادي الشجرة: "هذا يهودي تعال يا مسلم واقتله". لا.. لم يأت الوقتُ بعد، فهذا يحدث في آخر الزمان، ونحن مازلنا في أوله.
ويدور خالي حول بيت الانكليزي، ويتفحص الطرقَ حوله. لا أحد مستيقظ في حيفا. الهدارُ وحده يرتفع مثل شبح بألف كوة سوداء، ولكنه يبدو غافلا عن وجود خالي الذي يقترب من السور الخلفي، ويقفز ويفاجئ الانكليزي بقامته المديدة، وأحزمة الرصاص المتقاطعة على صدره.
يقول خالي:
"كنتُ أعرفه منذ زمن طويل.. مستر جلهار هذا. وبعد أن فرك عينيه واستيقظ تماماً، دعاني إلى الدخول، فجلستُ وبندقيتي بين يدي. وسألني:
" ماذا جاء بك في هذا الوقت؟"
قلتُ:
"أريد أن أعرف ما أفعل الآن. احتل اليهود البلد. وها أنا أمامك حائر، لا أعرف ماذا أفعل"
ضحك الانكليزي وقال:
"هل أنتَ مجنون.. تأتي إلى حيفا، وقد احتلها اليهود!"
"قل ماذا أفعل؟"
تحيّر الانكليزي، وقال لي بهدوء:
"اسمع طالب. كل شيء انتهى. لقد باعتكم الدول الكبرى. هي أشياء لن تفهمها الآن، ولكن عليك أن تمضي"
ويضيف خالي:
"وخرجتُ إلى الظلام، واتخذتُ طريقي إلى الدالية"
وأقول كأنني أمام تلميذ صغير:
"كان الانكليزي على حق. ولكن الخطأ ليس خطأكَ أنتَ وأبو درّة وبقية الفلاحين. كانت أرضكم تُسرق منكم. وكان غيركم يقايض الانكليز واليهود"
ولم يقلْ شيئاً.. هذا الذي شارف السبعين من عمره بكتفين ممزقين لا عظمَ فيهما كما تؤكد أمّي من غزارة الرصاص الذي انهالَ عليه في أمّ الدرج. وخجلتُ حين صمتَ ولم يقل شيئاً، فقد كان الرجل مازال هناك، يتنقل شاباً ببندقيته وأحزمة الرصاص. ورأيتُ في نظرته شيئاً لا تحدّده أي كلمة أكتبها ولا تستطيع. لقد كنتُ أحاول سلبه ما كان عليه بقسوة متناهية.. أنا الذي صار لي أقرباء من الكلام، وهو الذي كان أقرباؤه الندى والصخور.